!هروب، تشخيص مرض أو اختبار؟ يا لسعادة فرويْد

نجح غسان سلهب في عرضه السينمائي “الجبل” “La Montagne” بعد “أشباح بيروت”، “أرض مجهولة” و”أطلال”

بالتطرّق إلى موضوع حسّاس جسّد فيه صراع الانسان مع نفسه في معاناته في الحياة امام مواجهة الموت. تتالت اللقطات فيه عبر عدّة فصول كمسرحية أضفت على الموضوع كما في الشكل عنصراً مختلفاً من نوع جديد. في هذا الفيلم الذي يحمل  طابع هوية غير تقليدية ، لامس غسان بإبداع ارض مجهولة من حدود اللاوعي للإنسان.

عرض الجبل  في صالة متروبليس في بيروت، وشارك فادي ابي سمرا، غسان في تمثيله وعاونه على اخراجه. في إداء تجربة فريدة من نوعها اختبر فيها فادي مع غسان إرادة طوعيّة لابتعاد رجل متمدّن، حضاري، عن حياته اليومية، مصمّ بالانفراد دون علم أحد بحجّة السفر لمدّة شهر. وبينما كان من المفترض أن يغادر لبنان عن طريق المطار بعد أن أوصله صديقه إليه فها هو يستأجر خلسةً سيّارة ليتسلق بها طريق الجبل فيصل إلى فندق عاديّ، يدفع حجزه مسبقاً ويطلب العزلة في غرفته.

سعى غسان في تجربته الى اخفاء المشاعر وراء وجه فادي الصارم وملامحه الثابتة. ولكنه لم يَخْفِها في المشاهد  وعبّر عنها بقوّة واظهر حرقة هذا الرجل وازدواجية حواسه او بالاحرى غموض وعقّدة وصعوبة هذه الشخصية المعذبة في مشهد رائع على طريق الجبل حيث باح بواقع وحقيقة حواسه.

حلقة احتراق سيارة في حادث مروع قضى فيه شاباً وصبية حتفهم كان قد التقى بهما صدفة نابضان بالحياة والسعادة. فلم يحرك ساكناً للمعاونة خشية تفشي سرّه وراح يحدّق بهما ببرودة أعصاب وعاد بخطواته إلى الوراء. وإذ ابدع غسان في ابراز حقيقة مشاعره بصورة تجسّد صراعه الداخلي واحاسيسه المهتاجة المتضاربة كانه استطاع ان يدخل الى احشائه ليظهر حقيقة ما في داخله من صراع مع لهب النيران والموت في شعلة تلتهبه من داخله ينظر من خلالها الى موت نفسه لعلّه خلع القناع للحظات قليلة، ثم سار في دربه وتابع وجهته كانّ شيئا لم يكن!

نقد للسرعة؟ نقد اللاوعي وعدم المسؤولية لدى الشباب؟ ولكن أين هو من ذلك عندئذٍ؟ أهو في حالة وعيٍ أو انعدامه؟ هل تصرفه يدلّ على النضج حينها؟ ورغم الحاح غسان انه ينوّر عن تجربة بحثٍ واصراره رافضا حمل رسالة  او إبداء حكم أو محاولة إرسال أمثولة أو سعي وراء رمزية فلا يمكننا سوى التفكير بذلك!

بعد ان اعاد القناع، بات مراقبة هذا الوجه المتشائم واختبار حدود سلوك الإنسان وتأثير عواطف يواجهها فرد ينعم بكامل نشاطه، حواسه وعافيته، في عزلة غرفة، بعفوية و دون أي تحضير، يشكِل هدف غسان. منذ تلك اللحظة يبدأ الإختبار ويتطوّر السيناريو يوماً تلو الآخر. فيهتز المشاهد و ينفضّ من داخله فيطرح أسئلة مع فادي كانه جزء من الدراسة.

فادي أمام  افكاره، أفعاله وقراراته دون نظير اخر سوى ضميره، حتى ان المرآة ازيحت الى قعر إحدى درف الخزانة.  ورغم صعوبة الموقف، تمكن غسان من متابعة حركاته ودخول خلاياه بعمق ، فدوّن ملاحظاته وصوّر انفعالاته، والتمس أحاسيسه وخياراته لعله مختبرا في الواقع موقفه الذاتي فلا ندري اذا كنا في مواجهة فادي او بالاحرى غسان، فكل انتحل شخصية الاخر. فالتقط غسان نبضات القلب وهيجان الفكر ونقلها عبر عدسته، وبثها على الناظر.

الحَ غسان على عرض هذا الصراع الداخلي الدائم بين الحياة والعواطف الخارقة من جهة والموت من جهة اخرى وافرط في التلميح اليه في فترات عدَة، منها قطع البثُ والتَوقُف مباشرة على شاشة سوداء غفلة تنقل المشاهد الى فصل اّخر لتعيده بتساؤلاته وتناقضاته مجدداً إلى فصلٍ اّخر. كما تلاءم موضوعه تماماً في المقارنة بين الطبيعة الهادئة فالهائجة بغتةّ من جهة والشخصية المنفعلة والمتروية فجاة من جهة أخرى.

في هذه الاثناء يعيش فادي سيرته بانتظام ورعاية ولكن في وقت حدّده هو لنفسه فدمج ليله بنهاره لا يفصل بينهما سوى بضع دلائل نظمها المخرج بدقة عقله المدبّر في هذا الظلام الطويل، كوب حليب أو زقزقة طيور في الصباح، او حساء في المساء. يفرض ساعته البيولوجية حسب احتياجاته الذاتية حتى عندما اختلى بتعاطيه العادة السرية الحميمة التي لمّح لها غسان باحتشام.

من حيث لا يدر وضع غسان إصبعه على بعد عالمي، شر الوحدة في هذا العصر. الإنزواء والعزلة في عالمنا هذا لا يدرك أحداً نتائجه على الإنسان بحدّ ذاته أو على غيره. أليس ما نبصره اليوم من نتائج، ثورات وانتفاضات حتى الإزالة واللانهاية! لعله لا يدرك البشر كيف ينكب بأفعاله على غيره إثر انكماشه، تشبثّه وانفراده بالرأي فيسبب باختلاق حالات عشوائية غير مسؤولة فتنقلب راساً على عقب على غيره من البشر وعليه بالتحديد!

وفادي التي طغت عليه هجمة الأفكار في عزلته، تأثر في صراعاته النفسية وبات يغوص في طياتها فيضيع في عالم الفكر بين اليقظة المريرة والواقع الاليم حتى يلامس اللاوعي المخيف ليرمي بنفسه في صراع عنيف مع الموت المبهم  باحثاً عن نافذة ليهرب منها. ولكن أي منفسٍ منه!

معركته مع ذاته تبدو خاسرة منذ البدء فمهما لم يكن لغسّان تسلسل روائي مسبقٍ فالإحساس والجوّ الشمولي الذي يطغى يدلّ ويوحي بقضية خاسرة.

ملامحه كخطة عوّدنا عليها ألفرد هيتشكوك في أفلامه، لا تبشّر بالخير حيث الجوّ ضبابي، العواصف قاصفة والأصوات مخيفة في ضغط صمت مهيب كالموت البطيء.

فقد أتقن غسان مشاركة الصوت والصورة مع انسياق الحدث بدقة سنفونية فنان درس كل خطوة على حدى لتتناغم مع حدّة الموضوع فتزيد  في رهابة الموقف. وظّف غسّان دقة عدسته لتزايد هذا الشعور من الطغيان في سياق بحثه. نور ينطفئ، صورة في الأسود والأبيض، طريق في الليل، فندق تافه، شاشة سوداء تفاجئ، رواق لا ينتهي، غرفة ضيّقة، كلام متمتم وخفيض غير متفهمٍ، ومياه جارية حتى بلغ ذورته في مشهد آثار خطوات تتلاشى في غابة مغطاة بالثلوج تختفي فتعود بعد فترةٍ مجدّداً.

برع غسان في بثّ الاحاسيس الحميمة للمشاعر الصعبة والدّقيقة، حيث لا كلام بل تمثيل وفن وسكوت كمشهد أضحى فيه الحبر الذي سال من ريشته، صلته الوحيدة لإباحة أحاسيسه وانفعالاته يكتب به على الورق، صورة لعلاقة ثنائية تقارب النشوة تبلورت عبرها لأول مرّة ملامح ابتسامة على وجه فادي الغامض.

تتبع غسان بصدق حرفيته وحدثه حركة فادي تحت إيقاع موسيقي مدروس وعلى نمط تصويري بطيء يزيدان ضغطاً ويعكسان مهنيته. فلقطاته المقربة المأخوذة بعناية دمجت الجوّ القمعي الخارجي بالجوّ القمعي الداخلي. فيقود غسّان المشاهد في هذه التجربة في أسلوب متلاءم مع مطالب الاختبار. ولكن أهو اختبار حقا او تفجير لعوارض مرضٌ مخفي ؟ لكان سغموند فرويد هلَل امام حالة مماثلة!

 كاميرته تجول بإصرار على تفاصيل، تتوقّف تارة وتعود تورة لتتبع مزاج فادي في مباطحة أفكاره. تغوص في عينه كأنها تبصر إلى ما وراء ذهنه ثم تنبض بالحركة وتنكبّ على المشاهدين كأنما تطلب منهم المشاركة. فيتلاعب غسّان بلغة سينمائيّة متقنة في التواصل مع المشاهد فيدمج تجربته بتجربته حتى الإرباك بهذه النظرة للمعاناة. فيها صرخة تطلب المساعدة وتهزّ البدن وتبعث القشعريرة تلقن درساّ اّخر تلوم الانسان فيه على اللامبالات وعدم مدّ يدّ المساعدة لغيره.

أبرز غسان حالة معقدة، صعبة التصوير فتلاعب ببراعة ودمج الشكل بالمضمون لإبقاء المشاهد في ترقّب دائم منذ أول لمحة توقّع خاتمة عقل ينطوي بدلاً من نور ينطفئ، إلى مفاجأة النهاية حيث لا يتواصل فيها غسان بأدائه فقط بل بختم شخصي وعنف مربك.

هذا الفيلم الخانق حيث الضوء يبهر والظلام يداهم والجدران تحبس يقصد جمهور استثنائي يمارس حصة من تجربة غسان ويقع في فخّه، ليس فيلماً للترفيه بل تجربة فريدة تدعو مشاركة الفكر.

مونولوج دون انقطاع على نمط قاعدة وحدة الزمان والمكان والعمل يزيد من حالة توتر وإرهاق أعصاب المشاهد يرمي به في دائرة الجحيم ويجعله يبحث بقدر حاجة فادي الملحّة إلى الهرب والفرار من سجن زجّه به غسان دون علمه.

صمت، عزلة وعتمة، جزء من الطبيعة أو سياج مصحّ؟ جزء من الحياة أم إشارة الموت؟

حالة مرض أو ابتكار تجربة؟ أيا كانت ناور غسان وأوقع الجمهور حتى استنفذ صبره وقدرة تحمله تحت وطأة الاختبار.

يبدو لهذا الفيلم بعد طابع خاص له صلة في سيرة شخصية لحياة غسان في تعبير غير مباشر له بمشاعر مكبوتة أو تجربة أليمة مرّبها أو طرحها واخفاها وراء تجربة فادي وصراعاته وشخصيته.

أياً كانت الأسباب المعلنة أو المكبوتة على أي حال فاز غسان برهانه وحقق أهدافه، اختبر، زرّ وهزّ.

يرحب فيلمه الجبل بإداء فريد من نوعه بالباحثين عن شغف المراقبة والمحبّين بولع الإثارة والمتمسكين بإيجابية المساءلة فأهلاً بالمتطوعين!

 

ماري تيريز زوين تابت

في 11-12-2011

 

Posted in cinema | Tagged , , , , , , , , , , , , , | Leave a comment

Hello world!

Welcome to WordPress.com. After you read this, you should delete and write your own post, with a new title above. Or hit Add New on the left (of the admin dashboard) to start a fresh post.

Here are some suggestions for your first post.

  1. You can find new ideas for what to blog about by reading the Daily Post.
  2. Add PressThis to your browser. It creates a new blog post for you about any interesting  page you read on the web.
  3. Make some changes to this page, and then hit preview on the right. You can always preview any post or edit it before you share it to the world.
Posted in Uncategorized | 1 Comment